تشرئب أعناق الموريتانيين هذه الأيام إلى تشكيل حكومتهم المرتقبة؛ يحدوهم الأمل لإحداث تحول جذري وقطيعة شاملة مع رواسب الأداء الهزيل وشوائب التسيير الهجين لمقدرات البلد وثرواته وأهم ملفاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشائكة، إذ الحاجة ملحة – أكثر من أي وقت مضى – إلى تشكيل حكومة قوية منسجمة ومتماسكة؛ قادرة على الإنجاز والعمل بروح الفريق، رفعا للتحديات ومواكبة للتطلعات؛ يؤازرها ذراع سياسي فعال يكون بحجم المرحلة ومقاسها، ومشهد إعلامي قوي يعكس قيمها وخطابها، ولا مندوحة عن ضرورة انبثاق المشهد الجديد وتخلقه من رحم وعي عميق وتشخيص دقيق للأخلال البنيوية والمشاكل الجوهرية للبلد.
إن بلدنا يمر بلحظة مفصلية وتواجهه تحديات أمنية وتنموية – إقليمية ودولية، وتنتظره استحقاقات رئاسية مصيرية وأجندات سياسية واقتصادية واجتماعية ضاغطة، فضلا عن الرهانات التنموية والأمنية والمخاطر الجيو – ستراتيجية المحدقة الناجمة عن الوضع الأمني وحالات التوتر المسجل في الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا، وفى ظل هذه الوضعية الإقليمية والدولية الصعبة، يتعين الشروع في إطلاق ورشات تنموية تمهد لعمل مؤسسي جاد؛ يحدث جملة تحولات عميقة وإصلاحات جذرية وشاملة، وسأعرض في هذا المقال لجملة من الأفكار والمقترحات، أراها في طليعة رهانات المرحلة ومهمات الحكومة المرتقبة وأولوياتها التي يتعين عليها أن تشرع في صياغة مقاربات ناجعة لتحقيقها، وبلورة سياسات فعالة لتنفيذها :
– توطيد دعائم مناخ التهدئة السياسية ورأب الصدع ومواصلة العمل على نهج أخلقة المشهد السياسي الوطني؛ بوصفه أكبر مكسب سياسي تحقق خلال هذه المأمورية، فضلا عن الحاجة إلى تفعيل آليات التشاور القمين بأن يثمر – في هذه اللحظة الفارقة القلقة – خارطة طريق ناجزة وأجندة توافقية جاهزة؛ مستجيبة لتطلعات فرقاء المشهد السياسي إلى بناء نظام ديمقراطي صلب وقوي؛ فاللحظة تاريخية من أجل تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري، وتحتاج فقط إلى نخبة وطنية تقود تحولا مجتمعيا، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية وتعزيز وحدته الوطنية وتماسك لحمته الاجتماعية، بعيدا عن خطاب الاستقطاب ولغة الاحتراب واستحكام العقلية لبراغماتية الساعية لتحقيق مكاسب سياسية آنية.
– العمل على تعزيز الوحدة الوطنية وتوطيد دعائمها؛ استلهاما وتجسيدا لروح “خطاب وادان” واستئناسا وتفعيلا “لإعلان جول”.. بعيدا عن المناكفات والمماحكات السياسية؛ من خلال إطلاق المشاريع الاقتصادية المعززة للوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية، وتنفيذ برامج التوعية الإعلامية وتنظيم الندوات والبرامج الحوارية الجادة حول قضايا الحكامة والإدارة والتنمية وإشكالات المجتمع والثقافة والهوية دون خجل أو وجل.. ودون محاذير أو تابوهات، وأنا على يقين بأن الاختلاف الخلاق..! هو الذي ينتج الإجماع والاتفاق، ونحن بكل مكوناتنا الاجتماعية وتنوعنا الثقافي لدينا ثوابت دستورية صلبة ومتينة لبناء دولة وطنية مدنية معاصرة وقوية.
– وضع وتنفيذ استراتيجات جادة وفعالة لمحاربة الفقر المدقع، وتعزيز نهج التكفل بالمعوزين للتخفيف من وطأة الفاقة والبؤس الاجتماعي؛ ويتعين في هذا السياق مراجعة برامج وسياسات “تآزر” وتفعيلها وتنويعها لتصبح آلياتها أكثر نجاعة وسرعة في دعم ومؤازرة الفئات الهشة والمغبونة، مع التنويه ببعض المكاسب الطيبة المتحققة على مستوى السياسات الاجتماعية ومحاربة الفقر خلال هذه المأمورية.
– تفعيل المقاربة الأمنية ورفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الوطنية؛ من أجل مواصلة التصدي الحاسم للجريمة داخليا، ومواجهة التحدي الخارجي الناجم عن الأوضاع الإقليمية المضطربة في شبه المنطقة بحزم ويقظة وفاعلية، فلا شيء يعدل مكسب الأمن والاستقرار في منطقة يجتاحها التطرف والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة السرية… وغيرها من المخاطر والتحديات الأمنية المزمنة.
– التأسيس لمرحلة جديدة من محاربة الفساد بلا هوادة، فمهما كانت وتيرة التطوير والبناء وحجم مشاريع الإعمار؛ فلا تنمية في ظل غياب قيم الحكامة الرشيدة وحسن التسيير؛ ومعاول الهدم أسرع وأمضى من أدوات البناء، فلا مندوحة عن القطيعة النهائية مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية، وشن حرب غير تقليدية على كل مظاهر الفساد وأشكاله المقنعة؛ من خلال انتهاج استراتيجية وقائية استباقية في هذا السياق، تنطلق من تفعيل أجهزة الرقابة ومتابعتها، وتكثيف بعثات التفتيش ومضاعفتها، فضلا عن ضرورة اتباع مقاربة جديدة في التعيينات؛ عمادها تكليف الأطر الأكفاء الذين هم “مظنة للإصلاح” وإقصاء و إعفاء “أصحاب السوابق” في سوء التسيير ونهب المال العام.
– إطلاق نهج جديد في الحكامة؛ مؤسس على المصالحة مع الشباب وقائم على إشراكه في التسيير وإدارة الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف؛ تحريرا لطاقاته المعطلة وتثمينا لكفاءاته المهمشة؛ فالبلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ورغبته الجامحة في جودة الحكامة وحسن التسيير، فضلا عن ضرورة خلق واستحداث برامج جديدة وفعالة للتشغيل ومحاربة البطالة للحد من نزيف هجرة الشباب وما يترتب عليها من استنزاف خطير لطاقات البلد ومصادره البشرية الحيوية.
– ضخ دماء جديدة في الجهاز الحكومي والإداري تتمتع بكفاءة عالية ونزاهة مهنية، متشبعة بقيم الحكامة الجيدة ومستلهمة لمبادئ التسيير المسؤول الشفاف الذي يضمن فعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.
– وضع رؤية شاملة لتطوير الإدارة وتحديثها ورقمننها؛ وتقريب خدماتها من المواطنين والقضاء على البيروقراطية والفساد الإداري والرشوة والزبونية، وتجذير قيم المواطنة وتحرير الموظف العمومي من ربقة الانتماءات الضيقة السياسية والحزبية والاجتماعية والجهوية والعرقية والقبلية، وتكريس ولائه المطلق لمصلحة الوطن وخدمة المواطن، انطلاقا من مضامين خطاب الرئيس قبل أزيد من سنة أمام خريجي المدرسة الوطنية للإدارة، حيث عجزت الحكومة الحالية عن استيعاب وتنفيذ رسائل وتوصيات ذلك الخطاب وغيره من الخطابات الحصيفة الأخرى التي عجز الجهاز التنفيذي عن مواكبتها وتجسيدها.
– تكثيف ومضاعفة الجهود الحكومية المبذولة؛ من أجل مواكبة ودعم المواطنين من المحتاجين والفئات الهشة ومحدودي الدخل باستحداث جملة من البرامج والمشاريع وخلق الفرص المدرة للدخل، وتفعيل سياسات التشغيل لضمان تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتحقيق الأمن الغذائي، والعمل على الحد من إشكالية ارتفاع الأسعار؛ عن طريق تسريع وتفعيل صلاحيات الآلية الوطنية المستحدثة لهذا الغرض والتنسيق مع الموردين ورجال الأعمال وتفعيل آليات رقابة السوق.
– ونحن قاب قوسين أو أدنى من الولوج إلى نادى الدول المصدرة والمنتجة للغاز، نحتاج إلى جملة إجراءات تمهد بانسيابية لهذه اللحظة الاقتصادية الفارقة، فضلا عن ضرورة العمل على خلق بيئة مستقطبة وجالبة للاستثمارات الخارجية؛ من خلال تفعيل قواعد وآليات الحكامة وإشاعة قيم ومبادئ الشفافية في الحياة العامة، وتطوير وتحسين المدونة القانونية والترسانة التشريعية والمؤسسية المنظمة لحقل الاستثمار، نظرا لدوره المحوري في النهوض الاقتصادي وإطلاق قاطرة التنمية.
– التركيز على الاستثمار في قطاعات الثروة المتجددة؛ بوصفها قطاعات حيوية ذات قيمة مضافة عالية مثل: الزراعة والتنمية الحيوانية والصيد والطاقة، تأسيسا على دورها المحوري في تفعيل الاقتصاد المحلي، وتحقيق الأمن الغذائي، وتوفير الاكتفاء الذاتي، وخلق فرص التشغيل، عبر إحداث تناغم بين القطاعين العام والخاص، يتجسد في نسج شراكات عميقة ومثمرة وبناءة.
وعموما فإن الحكومة المرتقبة سياسية كانت أو فنية.. أو توليفة من رجال السياسة وحملة الرأي وقادة الفكر والتكنوقراط والخبراء والفنيين المتخصصين تنتظرها مهمات ورهانات وتواجهها تحديات وعقبات محلية وإقليمية ودولية كبيرة، وهي مطالبة بالارتقاء بمستوى أدائها والإسراع في وتيرة إنجازها، مع قوة الاستشراف ودقة التخطيط وعمق التفكير في برامجها ومقارباتها وسياساتها التنموية، وهي تراعى في كل ذلك مسارين متوازيين؛ مسار منطقه ظرفي آني استعجالي، وغرضه التخفيف من وطأة الفاقة وشح الموارد وحدة الأزمات الأمنية والتنموية ، ومسار منطلقه استراتيجي مستقبلي استشرافي في ضوء الآفاق الاقتصادية الواعدة، وغايته النهوض والإقلاع بالبلد، وجعله واحة للأمن وبوابة للتنمية.