سنخصص هذه الورقة الكاشفة الجديدة لملف التشاور أو الحوار، وذلك بعد أن أعلن الوزير الأمين العام للرئاسة عن تعليقه مساء يوم الأربعاء الموافق لفاتح يونيو 2022، وسنحاول من خلال هذه الورقة الكاشفة أن نجيب على أسئلة تدور على ألسنة الكثيرين من المهتمين بالشأن العام، وهي أسئلة من قبيل: من المسؤول عن تعثر التشاور؟ من الرابح من تعليقه؟ من الخاسر؟ ماذا بعد تعليق التشاور؟
بدءا، ومن قبل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، دعونا أولا نحدد الأهداف التي من المفترض أن المعارضة أي معارضة، والسلطة أي سلطة، تسعى لتحقيقها من خلال تنظيم حوار شامل مع شريكها أو خصمها السياسي.
في الأغلب تدخل السلطة، أي سلطة، في حوار مع معارضتها من أجل تحقيق أحد الأهداف، أو كل الأهداف التالية:
1 ـ الخروج من أزمة سياسية؛
2 ـ تحقيق تهدئة سياسية؛
3 ـ إضفاء شرعية على السلطة الحاكمة أو تعويض نقص قائم في شرعيتها؛
4 ـ السعي للحصول على إجماع وطني حول بعض القضايا والملفات الوطنية الهامة.
أما المعارضة، أي معارضة، فإنها تدخل الحوار مع السلطة أو مع الأغلبية الممثلة لتلك السلطة من أجل تحقيق أحد الأهداف، أو كل الأهداف التالية:
1 ـ التخفيف من حدة أزمة سياسية قائمة؛
2 ـ تحقيق إصلاحات سياسية لم تتمكن المعارضة من تحقيقها من خلال النضال الميداني؛
3 ـ استثمار جهد نضالي بذلته المعارضة، والسعي لتحويل ذلك الجهد إلى مكاسب سياسية من خلال الحوار.
إن هذه الأهداف هي أهداف عامة، وتبقى لكل سلطة ومعارضتها خصوصياتهما، فما هي خصوصية السلطة والمعارضة في موريتانيا؟ وما هي الأهداف التي كان يسعى كل طرف إلى تحقيقها من خلال التشاور المعلق منذ فاتح يونيو 2022.
بالنسبة للسلطة، فإنه يمكن الجزم تحليليا أنها لم تكن تسعى من خلال التشاور إلى الخروج من أزمة سياسية قائمة، فلا أزمة سياسية قائمة في الوقت الحالي، ولم تكن تريد التشاور من أجل إضفاء شرعية مفقودة، فهي تحظى بشرعية من كل الطيف السياسي، ولم نسمع أي طرف معارض يشكك في شرعيتها، على الأقل منذ أشهر من بعد التنصيب وحتى اليوم. وهي أيضا لم تكن تسعى من خلال التشاور أو الحوار إلى تحقيق تهدئة سياسية، فالبلاد عاشت فيما مضى من المأمورية تهدئة سياسية لم تَعرِف لها مثيلا منذ انتهاء حكم الرئيس الراحل أعل ولد محمد فال وحتى اليوم.
إذن، ماذا كانت تريد السلطة من التشاور؟
الراجح عندي تحليليا، أنها كانت تسعى من خلال التشاور إلى:
1 ـ إطالة عمر التهدئة السياسية، والسعي إلى أن تبلغ هذه التهدئة أقصى مدى زمني يمكن أن تبلغه؛
2 ـ أن تُظهر لشركائها السياسيين وللرأي العام الوطني أن لها طريقتها الخاصة في التعامل مع المعارضة، فلكل نظام أسلوبه الخاص في التعامل مع معارضته، فإذا كان الرئيس السابق قد فضل أسلوب الصدام والتصادم، فإن الرئيس الحالي يفضل أسلوب التهدئة، ولذا فمن الطبيعي جدا أن ينظم لقاءات بالمعارضين ، بل وأن يدعو أغلبيته إلى التشاور معهم، متعهدا بتنفيذ ما سيتم الاتفاق عليه. من المهم أن نسجل هنا أن الرئيس لم يكن يرى ضرورة لتنظيم حوار أو تشاور في مأموريته الأولى، ولم يكن يرغب في ذلك، ولكن تكرر الطلب من قادة المعارضة بضرورة تنظيم حوار وطني شامل، جعله يقبل بذلك الطلب تكريسا للنهج الذي أراد أن يتعامل به مع معارضيه، وهو النهج القائم على التهدئة بدلا من الصدام؛
3 ـ من الأهداف التي يمكن القول إن السلطة كانت تسعى لتحقيقها من خلال التشاور: الوصول إلى إجماع وطني حول بعض القضايا والملفات الكبرى، وهو الشيء الذي سيمكن الرئيس من الحصول على إجماع ودعم وطني بخصوص تلك القضايا والملفات، بدلا من أن يقتصر الدعم على موالاته لوحدها. كما أن حصول هذا الإجماع سيساعد في تحصين البلاد من عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تعاني منه بعض دول المنطقة.
هذا هو ما يمكن القول تحليليا إن السلطة كانت تريد تحقيقه من خلال الحوار، فماذا كانت تريد المعارضة تحقيقه من الحوار؟
للجواب على هذا السؤال، لابد من التفريق بين المعارضة والموالاة، فالموالاة لها خيطها الناظم، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها من خلال الحوار مع خصمها السياسي يمكن تحديدها دون مشقة، فهي ـ وببساطة شديدة ـ تسعى إلى ما يسعى إليه الرئيس، وقد حددنا في الفقرة السابقة ثلاثة أهداف نعتقد أنها هي الأهداف التي كانت السلطة تسعى إلى تحقيقها من خلال التشاور.أما بالنسبة للمعارضة فالأمر مختلف جدا، وأكثر تعقيدا، فالمعارضة في أكثر أوقاتها ليست على قلب رجل واحد، ولا تسير وفق اتجاه بوصلة موحدة، وقد ازداد تعدد اتجاهاتها وكثرة تشتتها من بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث لم تعد توجد منسقية أو منتدى أو تجمع كبير يضم أغلب أحزاب المعارضة، ويمتلك ـ بالتالي ـ الشرعية السياسية للتحدث باسم المعارضة.
يمكن للمتابع للشأن المعارض أن يلاحظ أن المعارضة تمر اليوم بواحدة من أصعب لحظات تشتتها وضعفها، وهي لم تستطع أن تنجب قادة جددا، وذلك في وقت دخل فيه أغلب قادتها التاريخيين في مرحلة التقاعد السياسي الإجباري، حتى وإن لم يعلنوا رسميا عن ذلك التقاعد. لا يعني هذا الكلام أن الموالاة الداعمة للرئيس تعيش أحسن أيامها، فالموالاة والمعارضة تعيشان اليوم توازنا لافتا في الضعف، وخاصة على مستوى الأداء السياسي.
عموما، هناك أربعة اتجاهات داخل المعارضة الحالية:
1 ـ المعارضة التقليدية، وهذه تتشكل من أحزاب التكتل واتحاد قوى التقدم وتواصل، وكان من المفترض أن يكون في هذه المجموعة التحالف الشعبي التقدمي، فهذه الأحزاب تسعى بشكل جاد إلى تنظيم حوار وطني شامل يفضي إلى بعض الإصلاحات. طبعا يبقى هناك اختلاف في مستوى الحماس لدى كل حزب من هذه الأحزاب الثلاثة، فتواصل مثلا لم يظهر جديته في السعي للحوار إلا في الفترة الأخيرة، وهذا ما سنبينه في بعض فقرات هذه الورقة الكاشفة، وعلى العموم، فيمكن القول إجمالا بأن هذه الأحزاب الثلاثة هي الأحزاب الأكثر جدية والأكثر تحمسا للحوار في فسطاط المعارضة؛
2 ـ قطب التناوب الديمقراطي، وقد دخل التشاور كقطب ثالث، وهذا القطب وحتى وإن كان يتشكل من حزب الصواب وأحد أجنحة ميثاق لحراطين، ومشروع حزب “الرك”، إلا أنه في حقيقة أمره قطب قائم على تقلب مزاج النائب بيرام، فلا رأي للصواب ولا لميثاق لحراطين، ولا لمشروع حزب “الرك”، فكل الأمور تسير داخل هذا القطب وفق اتجاه بوصلة مزاج بيرام، وهو الذي يعرف بسرعة تقلب مزاجه. ربما يكون بيرام قد حاول أن يستغل غياب أي شخصية قيادية من شريحته في الجلسات التحضيرية للتشاور، وأن يستثمر ـ وبأسلوب انتهازي ـ الهدية الثمينة التي منحها له الرئيس مسعود من خلال مقاطعته للجلسات التحضيرية. لقد شعر بيرام بعد غياب مسعود أنه يمثل شريحة هامة من المجتمع في التشاور، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تغييب هذه الشريحة من التشاور، ولذا فقد أعلن عن انسحابه من التشاور، محاولا بذلك أن يبتز السلطة وأن يضغط عليها، بحثا عن صفقة يستفيد منها تحت الطاولة، ولكن السلطة فاجأته هذه المرة ـ كما فاجأت آخرين ـ بتعليق التشاور إلى أجل غير مسمى.
3 ـ تحالف العيش المشترك، والعيش المشترك معروف ـ وبشطريه ـ برفعه لمطالب غير واقعية، تفرق أكثر مما تجمع، ولا تخدم الانسجام المجتمعي، وتتمثل هذه المطالب فيما يسميه العيش المشترك بتقاسم السلطة والثروة وترسيم اللغات الوطنية واستخدامها في التعليم والإدارة، هذا فضلا عن ملف “الإرث الإنساني”، والذي كلما تم الاعتقاد أنه أغلق نهائيا، فإذا به يفتح من جديد مع أي حوار جديد.
4 ـ حزب التحالف الشعبي التقدمي، والذي عزف منفردا على وتر مقاطعة الجلسات التحضيرية، ولأسباب غير مفهومة، ولا مبررها لها على الإطلاق. من المصادفات غير البريئة، أن الفيسبوك ذكرني عندما بدأت أفكر في إعداد هذه الورقة الكاشفة بمنشور كنتُ قد نشرته يوم 2 يونيو 2011، أي قبل إحدى عشرة سنة من الآن، وتضمن هذا المنشور تصريحا للرئيس مسعود قال فيه إنه سيذهب يوم الاثنين القادم إلى الحوار( والاثنين القادم في المنشور كانت تعني يوم 6 يونيو 2011)، حتى ولو ذهب وحيدا، وحتى ولو أدى ذلك إلى انسحاب حزب التحالف الشعبي التقدمي من منسقية المعارضة التي قررت حينها أن تقاطع الحوار.
فَبِم تفسرون ـ يرحمكم الله ـ هذا التناقض الصارخ في مواقف الرئيس مسعود، والذي كان قد قرر أن يذهب وحيدا في العام 2011 إلى حوار مع السلطة قاطعته منسقية المعارضة التي كان ينتمي إليها في ذلك الوقت، ويقرر اليوم أن يًقاطع وحيدا جلسات التحضير لتشاور شارك فيها كل الطيف المعارض؟
لم يعد حزب التحالف الشعبي التقدمي يمتلك وزنا سياسيا كبيرا، ولم يعد قائده يمتلك تأثيرا كبيرا في الساحة السياسية، ولكن ومع ذلك، فستبقى للرئيس مسعود رمزيته، ومما لا شك فيه أن وجوده في التشاور كان سيفيد التشاور، وكان سيحصنه من أن يعلق، حتى ولو انسحب بيرام في اللحظة الحرجة. كان الحضور للتشاور هو الموقف الأنسب لشخصية وطنية بحجم الرئيس مسعود، والذي عهدناه فيما مضى من تاريخه السياسي المتميز متشبثا بالحوار، حتى في فترات معارضته المتطرفة، فبأي منطق يكون الرئيس مسعود، وهو في هذه المرحلة من تاريخه السياسي الغائب الوحيد عن جلسات تحضيرية لتشاور يشارك فيه جميع الطيف السياسي؟
خلاصة القول في هذه الفقرة هي أن المعارضة، لم تكن على قلب رجل واحد، ولم تكن تتحرك وفق بوصلة موحدة، بل كانت تتحرك وفق أربع بوصلات على الأقل، لها أربع اتجاهات مختلفة بل ومتعاكسة في بعض الأحيان، ولذا فيصعب أن نحدد أهدافا واضحة يمكن القول إن المعارضة كانت تسعى لتحقيقها من خلال التشاور قبل تعليقه.
عن المسار الطويل للتشاور
سنحاول أن نستعرض من جديد أهم المحطات التي سبقت انطلاق أعمال اللجنة التحضيرية للتشاور، وسيساعدنا هذا العرض في تحديد من لم يكن متحمسا للحوار، ومن كان مسؤولا عن وأده بعد تجاوزه لسن الفطام. لنستعرض مسار التشاور الطويل من خلال المحطات أو النقاط التالية:
1 ـ لم تكن السلطة ترى ضرورة لتنظيم هذا التشاور، خاصة مع بداية المأمورية، ولكنها قررت في النهاية أن تغير رأيها استجابة للطلبات المتكررة لقادة المعارضة بضرورة تنظيم حوار وطني شامل؛
2 ـ جاءت أول دعوة جدية وموثقة للتشاور من خلال بيان مشترك للأحزاب الممثلة في البرلمان صدر قبل عامين من الآن، وتحديدا في يوم 14 مايو 2020، وقد جاء في فقرته الختامية : “تأمل أحزاب الموالاة والمعارضة الممثلة في البرلمان أن تُفضي خطوات التنسيق الحالي إلى الدخول في مرحلة جديدة، تُمهد لنقاش القضايا الجوهرية للبلاد، ووضع تصور لمعالجتها، وفق جدول زمني متفق عليه.”
يمكنكم أن تسجلوا هنا، وهذه تحسب لأحزاب الموالاة، وتعطي إشارة مهمة عن جديتها في إطلاق مسار من التنسيق المشترك مع أحزاب المعارضة يفضي إلى حوار وطني شامل، يمكنكم أن تسجلوا هنا أن هذا البيان الموقع من طرف حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وبقية أحزاب الأغلبية الممثلة في البرلمان، كان بيانا غير مسبوق في شكله ومحتواه، حتى وإن كان لم يجد من التغطية الإعلامية ولا من التفاعل السياسي ما يستحق. لقد تضمن هذا البيان عشر نقاط تحدثت كلها، باستثناء نقطتين فقط، عن بعض أوجه التقصير في العمل الحكومي. فمنذ متى كان الحرص على التنسيق مع المعارضة يدفع بأحزاب الأغلبية إلى أن توقع بيانا مشتركا يتحدث عن بعض أوجه التقصير في الأداء الحكومي؟
3 ـ بعد صدور هذا البيان قرر حزب تواصل أن ينسحب من منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان، وقد انتقد بشدة ما أسماه بعملية التسلل إلى التشاور من خلال تنسيقية أحزاب تشكلت في الأصل للتصدي لجائحة كورونا. في يوم 2 نوفمبر 2020، أي بعد نصف سنة تقريبا من دعوة الأحزاب الممثلة في البرلمان للحوار، أصدر حزب تواصل وثيقة بعنوان: “رؤيتنا للإصلاح .. من أجل تحول توافقي”، وقد دعا فيها إلى حوار وطني شامل.
يمكنكم أن تسجلوا هنا أن حزب تواصل رفض التنسيق مع أحزاب معارضة وموالية ممثلة في البرلمان لتقديم مبادرة مشتركة للحوار باسم الموالاة والمعارضة ، ثم أطلق من بعد ذلك بعدة أشهر مبادرته الخاصة به، والتي دعا فيها إلى الحوار. مثل هذا التصرف يعني بلغة سياسية فصيحة وصريحة أن الحزب لم يكن وقتها متحمسا للحوار ولا للتهدئة مع النظام الحاكم.
4 ـ في يوم الأربعاء الموافق 24 فبراير 2021 أصدرت أحزاب الموالاة الممثلة في البرلمان وبعض أحزاب المعارضة ( التكتل؛ اتحاد قوى التقدم؛ التحالف الشعبي التقدمي؛ الصواب) خارطة طريق من أجل تشاور وطني شامل بين القوى السياسية، وحددت لتلك الخريطة سقفا زمنيا للتشاور: ثلاثة أو أربعة أسابيع للمرحلة التحضيرية، وخمسة أو ستة أسابيع لانطلاق التشاور. كما شكلت هذه الأحزاب لجنة اتصال كلفتها بالاتصال بالحزبين اللذين انسحبا في وقت سابق من منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان (تواصل، وحركة التجديد)، كما كلفتها أيضا بالاتصال ببقية الأحزاب والقوى السياسية الأخرى لدعوتها للمشاركة في اللجنة التحضيرية التي ستتشكل مستقبلا للتحضير للتشاور. كل هذا العمل الهام سيتم رميه كاملا في سلة المهملات حرصا من المنسقية على مشاركة الجميع في مسار تشاور جديد ينطلق من نقطة بداية يتساوى عندها جميع المشاركين. هذا التصرف لوحده يعد أقوى دليل على حرص منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان على إنجاح التشاور.
5 ـ بعد أكثر من نصف عام على إعلان منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان عن خارطتها للتشاور، وتحديدا في يوم 16 أغسطس 2021، أصدرت الأحزاب : تواصل؛ التحالف الشعب التقدمي؛ المستقبل ؛ تحالف العيش المشترك بشطريه ؛ مشروع حزب “الرك”، وفي إطار ما يسمى ب”أحزاب وتحالفات المعارضة الديقراطية” بيانا مشتركا دعوا فيه إلى حوار جدي، واللافت في هذا البيان أنه كان مليئا بعبارات ذات شحنة عرقية وشرائحية من قبيل: ” إقصاء مكون الأفارقة السود”؛ ” البيظان البيض” “شريحة لحراطين الجانب المرئي للقضية” …إلخ.
6 ـ في يوم 17 أغسطس 2021 استقبل رئيس الجمهورية منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان، وشكل ذلك اللقاء نقطة انطلاق جديدة في ملف التشاور الوطني، وقد غاب عن ذلك اللقاء تواصل والتحالف الشعبي التقدمي والتحالف من أجل العدالة والديمقراطية . وفي يوم 22 سبتمبر 2021 أكد رئيس الجمهورية في خطابه خلال افتتاح أعمال المنتديات العمومية لقطاع البناء والأشغال، أن التشاور الوطني المرتقب “لن يستثني أحدا، ولن يحظر فيه موضوع.”
7 ـ في يوم 18 أكتوبر 2021 أعلنت منسقية أحزاب وتحالفات المعارضة الديمقراطية من خلال بيان صحفي لم يوقعه مشروع حزب “الرك” الذي كان عضوا فيها، أنها قررت المشاركة في الحوار، وذلك “بعد تقويم مجمل الاتصالات السياسية مع السلطة القائمة والطبقة السياسية، واستجابة لتطلعات الرأي العام الوطني” حسب ما جاء في نص البيان.
8 ـ في يوم الأربعاء 6 إبريل 2022 كلف رئيس الجمهورية الوزير الأمين العام للرئاسة بالإشراف على عمل اللجنة التحضيرية للتشاور، كما تم دعمه بفريق من كبار الموظفين يتكون من ثلاثة مستشارين في رئاسة الجمهورية، ومستشار من الوزارة الأولى، وممثل للجمعية الوطنية، وممثلين اثنين من وزارة الداخلية، وفي يوم 16 إبريل 2022 انطلقت أشغال اللجنة التحضيرية للتشاور الوطني، وفي يوم 1 يونيو 2022 أعلن الوزير الأمين العام للرئاسة عن تعليق التشاور، وذلك في انتظار: ” خلق ظروف جديدة تمكن من تنظيم تشاور كامل”.
إن اختيار رئيس الجمهورية للوزير الأمين العام للرئاسة، وهو حديث عهد بالمعارضة ومحل ثقة قادتها، للإشراف على عمل اللجنة التحضيرية للتشاور، ودعمه بفريق كبير من الموظفين السامين، كان بمثابة رسالة غير مشفرة وضعتها رئاسة الجمهورية في صندوق أو صناديق برد المعارضة، وهي رسالة تعبر ـ وبشكل قوي ـ عن مدى حرص رئيس الجمهورية على إنجاح التشاور الوطني.
من المسؤول عن تعليق التشاور الوطني؟
بعد هذا الاستعراض لأهم المحطات التي سبقت الإعلان عن انطلاق جلسات التشاور الوطني، فإنه يمكننا القول ـ وبكل اطمئنان ـ بأن رئيس الجمهورية وأغلبيته الداعمة وبعض أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب اتحاد قوى التقدم بذلوا جهودا كبيرة في سبيل إنجاح التشاور الوطني.
ويمكننا القول ـ وبنفس المستوى من الاطمئنان ـ بأن لائحة المتسببين في تعليق التشاور الوطني إلى أجل غير مسمى، يتصدرها:
1 ـ الرئيس مسعود ولد بلخير الذي قرر أن يتغيب عن كل جلسات التحضير للتشاور، ودون أن يقدم مبررا به أي ذرة وجاهة أو إقناع؛
2 ـ قطب التناوب الديمقراطي، ممثلا في شخص النائب بيرام الداه أعبيد، والذي قرر أن يوجه للتشاور الوطني طعنة غادرة في الوقت الحرج، وذلك من خلال إعلان انسحابه، بعد أن تم تجهيز كل شيء للدخول في مرحلة الورشات، أي المرحلة الأهم في مسار التشاور الوطني؛
3 ـ بعض أحزاب العيش المشترك، والتي تصر على طرح بعض القضايا التي تفرق أكثر مما توحد.
من الخاسر ومن الرابح من فشل التشاور؟
يمكن القول إن الخاسر الأبرز هو المعارضة، فتنظيم حوار أي حوار سيكون دائما بمثابة فرصة ثمينة للمعارضة لتحقيق بعض مطالبها، وتحقيق بعض المطالب عن طريق الحوار كان سيمكن المعارضة من أن تبرهن لجماهيرها بأن تهدئتها مع النظام لم تكن سلبية، وأنها قد أثمرت في النهاية عن حوار شامل حقق بعض مطالب المعارضة، والتي لم تكن لتتحقق لولا التهدئة والحوار. كانت المعارضة بحاجة ماسة للحصول على ثمرة هدنتها التي استمرت لأكثر من سنتين من خلال ما كان منتظرا من نتائج للتشاور..المؤسف في الأمر أن الجهات التي أفشلت هذا التشاور، وحالت بالتالي دون قطف المعارضة لثمار هدنتها مع النظام، هي جهات محسوبة على المعارضة.
أضاعت المعارضة فرصة ثمينة للتشاور، وكان على أحزابها التي بذلت جهودا كبيرة في التحضير للتشاور أن تتخلى ولو لمرة واحدة عن المجاملة السياسية، وأن تحمل مسؤولية فشل التشاور لمن أفشل بالفعل ذلك التشاور من خلال غيابه غير المبرر عن تشاور لا يُراد له أن يستثني أحدا، أو من خلال انسحابه في الوقت الحرج، وبعد أن تم الانتهاء من كل التفاصيل خلال جلسات التحضير، ولم يبق إلا الدخول في مرحلة العمل الجدي، أي مرحلة الجلسات النقاشية وإصدار التوصيات.
إن الخسارة الكبيرة من تعليق التشاور كانت من نصيب المعارضة. أما بخصوص السلطة، حتى وإن كان لها حظها من الخسارة بسبب فشل التشاور، إلا أنها مع ذلك ربحت ـ بشكل أو بآخر ـ فصورتها كسلطة تسعى للتهدئة مع المعارضة لم تهتز بعد تعليقها للتشاور، وذلك لكونها قد أرغمت على تعليقه بسبب إصرار بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة على إفشاله. ثم إن عمر التهدئة مع المعارضة لم يعد بالإمكان إطالته، على الأقل على مستوى الخطاب السياسي، فمع قرب موعد الانتخابات النيابية والبلدية فإن المعارضة ستعود حتما إلى خطابها التصعيدي بحثا عن الأصوات، ولم يكن من المتوقع أن لا تعود إلى ذلك الخطاب مع قرب موعد الاستحقاقات التشريعية والبلدية والجهوية، حتى وإن تم تنظيم تشاور وطني ناجح.
يبقى من أهداف السلطة من الحوار، والتي حددناها سابقا، الهدف المتعلق بالوصول إلى إجماع وطني حول بعض القضايا والملفات الكبرى، والظاهر أن التشاور لو تم تنظيمه لم يكن ليصل إلى ذلك الإجماع بفعل إصرار البعض على طرح قضايا تفرق أكثر مما تجمع، ولذا فإن تعليق حوار كان سيثير من الخلاف أكثر مما كان سيصل إليه من إجماع، هو تعليق في صالح النظام الحاكم، وفي صالح الوطن كذلك، ومع ذلك فسيبقى الحوار أمرا مطلوبا ـ وبإلحاح ـ في أي لحظة تكون فيها كل الأطراف المعنية به جاهزة له، ومستعدة للمشاركة في حوار جدي ومسؤول يضع المصلحة العليا للبلد فوق المصالح الحزبية والشخصية الضيقة.
ماذا بعد تعليق التشاور؟
في اعتقادي الشخصي أن السلطة مطالبة بعد تعليق التشاور، والراجح أنها ستستمر في تعليقه إن لم تُظهر الأطراف التي تسببت في فشله ما يثبت أنها غيرت من موقفها، أقول إنها مطالبة بأن تناقش مع السياسيين فرادى أو جماعات ملف الانتخابات والتحضير الجيد لها، فموعد الانتخابات قد اقترب، وهذا الملف لابد من نقاشه مع السياسيين، وهم المعنيون أولا به، ويمكن للسلطة بعد ذلك أن تنظم حوارات تنموية يُفتح فيها مجال المشاركة أمام الخبراء الوطنيين ومن مختلف التخصصات.
إننا في هذه البلاد بحاجة ماسة إلى تشاور تنموي يسعى للوصول إلى أنجع السبل للنهوض بالزراعة والتنمية الحيوانية والصيد البحري والتنقيب التقليدي. وتتأكد أهمية هذا النوع من الحوارات التنموية بعد أن عشنا مع بقية دول العالم الآثار السلبية لجائحة كورونا والحرب على أوكرانيا، والعالم سيبقى معرضا في المستقبل لمثل هذا النوع من الأزمات، وهذه الفقرة الأخيرة هي خلاصة أو توصية هذه الورقة الكاشفة.
حفظ الله موريتانيا…
محمد الأمين الفاظل